بين حماية الأمن وحق المعرفة.. لماذا توسعت المحظورات الصينية أمام المراسلين الأجانب؟
بين حماية الأمن وحق المعرفة.. لماذا توسعت المحظورات الصينية أمام المراسلين الأجانب؟
تشير شهادات مهنية حديثة إلى أن المجال المتاح أمام الصحفيين الأجانب في الصين يضيق بصورة ملاحظة بعد فترة انفراج قصيرة أعقبت جائحة كوفيد، ويرصد تقرير نادي المراسلين الأجانب في الصين لعام 2024 توسعاً لافتاً في قائمة القضايا المصنفة “حساسة”، والتي تشمل ملفات تقليدية مثل شينجيانغ والتبت وهونغ كونغ وشخص الرئيس شي جين بينغ.
وتمتد اليوم إلى موضوعات تبدو للوهلة الأولى اعتيادية مثل مؤشرات الاقتصاد والرسوم الجمركية والسياسة التكنولوجية والبطالة وحتى تغطيات ثقافية واجتماعية.
وفي هذا المناخ يقرر الكثير من المراسلين تعديل خطط السفر وإلغاء مقابلات أو الامتناع عنها تحت وطأة ضغوط رسمية أو عراقيل ميدانية غير معلنة، في حين تتزايد حالات تعذر الوصول إلى المصادر أو تراجع الاستجابة المؤسسية للاستفسارات الصحفية.
أدوات الضغط اليومية
تقول نتائج الاستبيانات المهنية -بحسب ما أوردته وكالة الأنباء الألمانية اليوم الاثنين- إن رفض المقابلات أو إلغاءها أصبح واقعاً يومياً لمراسلي وسائل الإعلام الأجنبية في الصين، مع تعرض الموظفين المحليين العاملين مع غرف الأخبار للترهيب أو المضايقة, وهو ما يدفع عدداً من الفرق إلى الاكتفاء بمصادر ثانوية أو بمواد منشورة رسمياً.
في الوقت نفسه تتكرر حالات العرقلة في الميدان عبر المتابعة اللصيقة لفرق التصوير من أشخاص مجهولين أو ممثلين لجهات محلية، إلى جانب أسئلة مستمرة حول تراخيص التصوير واستخدام معدات البث.
وتظهر شهادات عن تهديدات جسدية محدودة لكنها مقلقة، في حين يظل عبء أكبر يتمثل في القيود الإدارية المتعلقة بالتأشيرات وتدوير الإقامات ووثائق العمل للصحفيين والمنتجين والمترجمين.
الإطار القانوني والسياسات الأحدث
شهدت البيئة التنظيمية تعديلات عززت منسوب الحذر لدى غرف الأخبار الدولية، توسع تعريف التجسس في قانون مكافحة التجسس المعدل في 2023 ليمتد إلى الحصول على أنواع واسعة من المعلومات، كما أقر تعديل على قانون الأسرار الرسمية في 2024 يصنف فئات جديدة من المعطيات ضمن نطاق العمل السري.
وبالنسبة للمؤسسات الإعلامية الدولية، تعني هذه الصياغات الواسعة هامشاً أكبر للالتباس عند إعداد التحقيقات الاقتصادية والتقنية والمالية، وبالتالي ثمة حاجة مضاعفة إلى فحص المخاطر القانونية قبل أي نشر أو تصوير أو حفظ للوثائق والبيانات، إلى جانب ذلك، تُواصل الأجهزة المختصة في الصين تطبيق نظام تأشيرات يتسم بالحساسية تجاه موضوعات التغطية وملفات المراسلين، ما يترك نسبة من المكاتب الدولية أقل من حجمها الاعتيادي بسبب بطء الإحلال والتجديد أو رفض الطلبات.
وتتمسك وزارة الخارجية الصينية بخطاب يؤكد أن الصحفيين الأجانب يتمتعون بتسهيلات وتعاون من الجهات المعنية وأن غالبية الأعمال تسير بشكل طبيعي، في المقابل، ترى منظمات مهنية وحقوقية أن اختلاف تعريف الشفافية يصنع فجوة كبيرة بين تجربة المراسلين اليومية وبين التصريحات الرسمية، وتزداد هذه الفجوة اتساعاً عندما تتداخل التغطيات السياسية مع ملفات اقتصادية وتكنولوجية استراتيجية تعتبرها بكين جزءاً من الأمن القومي.
انعكاسات هونغ كونغ
تؤثر أوضاع حرية الصحافة في هونغ كونغ بشكل مباشر في ممارسات الصحفيين الأجانب، فإلى جانب تطبيق قانون الأمن القومي لعام ألفين وعشرين، أقر المجلس التشريعي المحلي تشريعاً إضافياً في 2024 يوسع نطاق الأفعال المجرمة تحت لافتة الأمن القومي.
هذه الإجراءات واجهت انتقادات أممية من منظمات حقوقية رأت أنها تقلص إلى حد بعيد المساحة التاريخية التي كانت متاحة للعمل الصحفي الحر، وتظل قضية رجل الأعمال والناشر جيمي لاي مثالاً مركزياً على اختبارات استقلال القضاء وحرية الصحافة في الإقليم، إذ تمتد إجراءات محاكمته منذ أشهر طويلة وسط متابعة دولية حثيثة.
وعلى المستوى الدولي، تتقاطع المؤشرات الخاصة بالصين مع اتجاه واسع لتراجع حرية الصحافة في مناطق عديدة من العالم، غير أن ترتيب الصين المتأخر في المؤشرات العالمية لتصنيف حرية الصحافة وتسلسلها ضمن الدول التي تسجن الصحفيين بمعدلات مرتفعة يعيدان طرح السؤال حول تناسب التشريعات والممارسات مع التزامات الدولة المعلنة في المحافل الدولية، وتفيد قواعد رصد السجون الخاصة بالصحفيين أن الصين، بما في ذلك هونغ كونغ، تظل ضمن أكبر السجانين للصحفيين حول العالم وفق إحصاءات مستقلة، مع حضور بارز لقضايا تتعلق بنشر معلومات اعتبرتها السلطات سرية أو ماسة بالأمن القومي، أو ارتباطات مزعومة بجهات خارجية.
تأثير القيود على جودة التغطية
تضغط هذه البيئة على أساليب العمل داخل غرف الأخبار، حيث يميل المراسلون إلى الاعتماد على البيانات الرسمية وتحليل الوثائق العامة لتفادي المخاطر، ما يقلل من المساحة الميدانية للتقصي ومن تنوع المصادر البشرية، كما تتراجع القدرة على الوصول إلى الأطراف المحلية المتخصصة، من أكاديميين ورواد أعمال وخبراء تقنيين، بسبب خشية هؤلاء من الظهور الإعلامي أو التواصل مع جهات أجنبية. ويؤدي ذلك إلى فجوة معرفية في قصص الاقتصاد الكلي والتحولات الصناعية وسلاسل التوريد والتكنولوجيا المتقدمة، وهي ملفات يتابعها جمهور عالمي ويحتاج إلى معلومات موثوقة ومتوازنة.
وراء الأرقام قصص شخصية لمراسلين ومترجمين وسائقين ومنتجين محليين يعيشون بين ضغط الواجب المهني ومخاوف قانونية وشخصية، يدور الكثير من الجهد اليومي حول إجراءات احترازية تشمل مراجعة قانونية مكثفة للنصوص، وتدريب الفرق على الأمن الرقمي وإدارة الاتصالات الحساسة، وتحديث بروتوكولات السفر الداخلي، وتدفع الطواقم المحلية ثمناً مضافاً بسبب قابلية تعرضها للمتابعة الإدارية والاجتماعية، ما يفرض على غرف الأخبار تخفيف الأعباء عنهم وإعادة توزيع المهام بما يقلل الاحتكاك المباشر.
صوت المنظمات الحقوقية والأممية
تجمع المنظمات الحقوقية الدولية على الدعوة إلى حماية حرية الإعلام وعدم توظيف قوانين الأمن القومي والسرية في إسكات الصحافة أو تحجيمها، وتشدد منظمات معنية بحرية التعبير على أن الممارسات التي تشمل الترهيب أو المتابعة الميدانية أو العرقلة الإدارية تتعارض مع المعايير الدولية لحرية الرأي والتعبير والوصول إلى المعلومات.
يلفت خبراء الأمم المتحدة إلى اتساع ظاهرة التضييق على الصحفيين داخل الحدود وخارجها، مع الدعوة إلى إلغاء التهم ذات الطابع السياسي واحترام الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة ونبذ استخدام تشريعات الأمن القومي لقمع العمل الصحفي السلمي، هذه المواقف تلح كذلك على حماية العاملين في وسائل الإعلام المحلية الذين يتعاونون مع المراسلين الأجانب ويشكلون القاعدة الحرفية لأي تغطية ميدانية.
القانون الدولي ومعضلة التصديق
يستند النقاش إلى معايير دولية راسخة يتصدرها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يكرس حرية الرأي والتعبير، الصين موقعة على العهد لكنها لم تصادق عليه حتى الآن، ما يخلق حالة وسطى من الالتزام السياسي دون نفاذ قانوني داخلي مباشر، وتؤكد هيئات الأمم المتحدة المعنية أن أي قيود على حرية التعبير يجب أن تكون ضرورية ومتناسبة ومحددة بشكل دقيق لحماية مصلحة مشروعة معترف بها دولياً، وألا تتحول إلى غطاء عام يطول العمل الصحفي المشروع.
تجمع المعطيات على أن المناخ المهني للصحافة الدولية في الصين يتجه نحو مزيد من الانغلاق التنظيمي والعملي، حتى عندما تتراجع بعض مظاهر العداء العلني أو الهجمات على المنصات الرقمية، تتحسن بعض التفاصيل الإجرائية مثل تسريع نسبي في معالجة التأشيرات في حالات محددة، لكن التأثير الإجمالي على جودة التغطية وسلاسة الوصول إلى المعلومات يبقى سلبياً.
ويبدو أن المستقبل القريب سيشهد استمرار الشد والجذب بين غرف الأخبار التي تبحث عن مساحة مهنية آمنة لتغطية أضخم اقتصاد صناعي في العالم وبين سلطات تعتبر عدداً واسعاً من الملفات ذات طبيعة سيادية وأمنية، في هذه المسافة الفاصلة تتحدد القيمة المضافة لأي مبادرات لبناء الثقة، سواء عبر حوارات مهنية مع المؤسسات الرسمية والجامعات والهيئات الاقتصادية، أو عبر آليات أممية ومهنية لتقليل مخاطر العمل وتوفير ضمانات شفافة للتصاريح والوصول إلى المناطق والأشخاص والبيانات.
تاريخ من الإجراءات
تحتفظ ذاكرة الصحافة الدولية بمحطات شكّلت منعطفاً في علاقة الصين بالمراسلين الأجانب، من أبرزها عمليات إبعاد لصحفيين تابعين لوسائل إعلام أمريكية في عام ألفين وعشرين في ذروة التوتر الدبلوماسي، إلى جانب قيود واسعة خلال الجائحة أثرت على دورة التأشيرات والتنقل الداخلي.
منذ ذلك التاريخ برز مساران متوازيان، الأول توسع في منظومة قوانين الأمن القومي والسرية ومكافحة التجسس وتطبيقها في الحياة الاقتصادية والتكنولوجية، والثاني تشدد عملي على الأرض عبر المتابعة والعراقيل والضغط على الموظفين المحليين.
وفي المقابل، استمرت الحكومة في التأكيد على أنها ترحب بالعمل الإعلامي المهني وأنها توفر بيئة آمنة ومنظمة للصحفيين، وأن الحالات المثارة استثناءات أو ناتجة عن مخالفة القواعد المحلية.